بالتخلّف الذهني فليس عصره البدائي هو عصر الأقمار الصّناعية ولا التلفزيون والهاتف والصاروخ. وإنّما لا نريد أن يلصق ذلك بصاحب الرسالة (صلى الله عليه وآله) لأنّ الفرق كبير والبون شاسع، فهو الذي بعثه الله في الأميّين يتلو عليهم آياته ويزكّيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة، وبما أنه خاتم الأنبياء والمرسلين فقد علمه الله علم الأولين والآخرين.
كما نلفت القارئ الكريم بأنّ ليس كل ما في البخاري هو منسوب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد يخرج البخاري حديثاً للنّبي (صلى الله عليه وآله) ثم يعقب عليه بآراء بعض الصّحابة فيصبح القارئ يعتقد بأنّ ذلك الرأي أو الحديث هو لرسول الله في حين أنّه ليس له.
أضرب لذلك مثلاً:
أخرج البخاري في صحيحه في كتاب الحيل باب في النكاح من جزء الثامن صفحة 62 قال:
* عن أبي هريرة عن النّبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا تنكح البكر حتى تستأذن ولا الثّيب حتى تستأمر. فقيل: يا رسول الله كيف إذنها؟ قال: إذا سكتت، وقال بعض النّاس إن لم تستأذن البكر ولم تزوج فاحتال رجلٌ فأقام شاهدي زور أنه تزوجها برضاها فأثبت القاضي نكاحها والزوج يعلم أن الشهادة باطلة فلا بأس أن يطأها وهو تزويج صحيح، فانظر إلى قول البخاري (بعد حديث النبي (صلى الله عليه وآله)) وقال بعض النّاس! فلماذا يصبح قول بعض النّاس (وهم مجهولون) بأنّ النكاح بشهادة الزور هو نكاح صحيح، فيتوهّم القارئ بأنّ ذلك هو رأي الرّسول، وهو غير صحيح.
مثال آخر ـ أخرج البخاري في صحيحه من كتاب بدء الخلق باب مناقب المهاجرين وفضلهم من جزئه الرابع صفحة 203 عن عبد الله بن عمر قال: كنّا في زمن النّبي (صلى الله عليه وآله) لا نعدل بأبي بكر أحداً ثم عمر ثم عثمان ثم نترك أصحاب النّبي (صلى الله عليه وآله) لا نفاضل بينهم.
إنّه رأي عبد الله بن عمر ولا يلزم به إلا نفسه، وإلا كيف يصبح علي بن أبي طالب وهو أفضل النّاس بعد رسول الله، لا فضل له ويعده عبد الله بن عمر من سوقة النّاس.
ولذلك تجد عبد الله بن عمر يمتنع عن بيعة أمير المؤمنين ومولاهم، فمن لم يكن عليّ وليه فليس بمؤمن (1) والذي قال النّبي في حقّه: عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي (2)، وبايع عدوّ الله ورسوله وعدوّ المؤمنين الحجّاج بن يوسف الفاسق الفاجر، ونحن لا نريد العودة إلى مثل هذه المواضيع، ولكن نريد فقط أن نظهر للقارئ نفسيات البخاري ومن كان على شاكلته فهو يخرج هذا الحديث في باب مناقب المهاجرين وكأنه يشعر من طرف خفيّ إلى القرّاء بأنّ هذا رأي الرسول (صلى الله عليه وآله) بينما هو رأي عبد الله بن عمر الذي ناصب العداء للإمام علي.
وسنبيّن للقارئ اللّبيب موقف البخاري في كل ما يتعلّق بعلي بن أبي طالب، وكيف أنّه يحاول جهده كتمان فضائله وإظهار المثالب له.