5 ـ أخرج المحدّثون والمؤرخون الذين أرّخوا مرضى النّبي (صلى الله عليه وآله) ووفاته وكيف طلب منهم أن يكتب لهم كتاباً لن يضلّوا بعده أبداً وهو ما سمّي برزية يوم الخميس، وكيف أنّ عمر بن الخطّاب عارض وقال بأنّ رسول الله يهجر ـ والعياذ بالله ـ .
وقد أخرج البخاري في صحيحه من كتاب الجهاد باب هل يستشفع إلى أهل الذمّة ومعاملتهم.
وأخرجه مسلم في صحيحه من كتاب الوصية باب ترك الوصيّة لمن ليس له شيء يوصي فيه.
* عن ابن عبّاس رضي الله عنه، أنّه قال: يوم الخميس، وما يوم الخميس، ثم بكى حتّى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتدّ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وجعه يوم الخميس، فقال: «ائتوني بكتاب، أكتب لكم كتاباً لن تضلّوا بعده أبداً» فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازعٌ، فقالوا: هجر رسول الله (صلى الله عليه وآله) قال: «دعوني فالذي أنا فيه خيرٌ مما تدعوني إليه» وأوصى عند موته بثلاث: «أخرجوا المشركين من جزيرة العرب، وأجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم» ونسيت الثالثة.
نعم هذه هي رزية يوم الخميس التي لعب فيها عمر دور البطولة فعارض رسول الله (صلى الله عليه وآله) ومنعه أن يكتب وبتلك الكلمة الفاحشة التي تعارض كتاب الله ألا وهي أن النّبي يهجر والبخاري ومسلم نقلاها هنا بالعبارة الصحيحة التي نطق بها عمر ولم يبدِّلاها ما دام اسم عمر غير وارد ونسبة هذا القول الشنيع للمجهول لا يضرّ.
ولكن عندما يأتي اسم عمر في الرواية التي تذكر بأنّه هو الذي تلفّظ بها يصعب ذلك على البخاري ومسلم أن يتركاها على حالها لأنها تفضح الخليفة وتظهره على حقيقته العارية وتكشف عن مدى جرأته على مقام الرّسول (صلى الله عليه وآله) والذي كان يعارضه طيلة حياته في أغلب القضايا وعرف البخاري ومسلم ومن كان على شاكلتهم بأنّ هذه الكلمة وحدها كافية لإثارة عواطف كل المسلمين حتّى أهل السنّة ضدّ الخليفة، فعمدوا إلى التّدليس، فهي مهنتهم المعروفة لمثل هذه القضايا وأبدلوا كلمة «يهجر» بكلمة «غلب عليه الوجع» ـ ليبعدوا بذلك تلك العبارة الفاحشة وإليك ما أخرجه البخاري ومسلم في نفس موضوع الرزية.
* عن ابن عباس، قال: لما حضر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، قال النّبي (صلى الله عليه وآله): هلّم أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده. فقال عمر: إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النّبي كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللّغو والاختلاف عند النّبي قال لهم: قوموا ـ قال عبدالله بن مسعود ـ فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزية كل الرّزية ما حال بين رسول الله وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم ولغطهم (3).
وبما أن مسلماً. أخذها عن أستاذه البخاري فنحن نقول للبخاري مهما هذّبت العبارة ومهما حاولت تغطية الحقائق فإنّ ما أخرجته كافٍ وهو حجةٌ عليك وعلى سيّدك عمر. لأن لفظ «يهجر» ومعناه يهذي ـ أو «قد غلب عليه الوجع» ـ تؤدّي إلى نفس النتيجة لأن المتمعّن يجد أنّ النّاس حتّى اليوم يقولون «مسكين فلان تغلّبت عليه الحمّى حتى أصبح يهذي».
وخصوصاً إذا أضفنا إليها كلامه «عندكم القرآن حسبنا كتاب الله» ومعنى ذلك أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) انتهى أمره وأصبح وجوده كالعدم.
وأنا أتحدّى كل عالم له ضمير أن يتمعّن فقط في هذه الواقعة بدون رواسب وبدون خلفيات فسوف تثور ثائرته على الخليفة الذي حرم الأمة من الهداية وكان سبباً مباشراً في ضلالتها.
ولماذا نخشى من قول الحق ما دام فيه دفاعٌ عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) وبالتالي عن القرآن وعن المفاهيم الإسلامية بأكملها، قال تعالى: «فلا تخشوا النّاس واخشون، ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» [المائدة: 44]. فلماذا يحاول بعض العلماء حتى اليوم في عصر العلم والنور جهدهم تغطية الحقائق بما يختلقونه من تأويلات متكلّفة لا تسمن ولا تغني من جوع.
فإليك ما ابتكره العالم محمد فؤاد عبدالباقي في شرحه لكتاب «اللؤلؤ والمرجان فيما اتفق عليه الشيخان» عند إيراده لحديث رزيّة يوم الخميس قال «يشرح الواقعة» (4).
ـ ائتوني بكتاب: أي ائتوني بأدوات كتاب كالقلم والدواة، أو أراد بالكتاب ما من شأنه أن يكتب فيه نحو الكاغد والكتف؛ والظاهر أن هذا الكتاب الذي أراده إنّما هو في النصر على خلافة أبي بكر لكنّهم لما تنازعوا واشتدّ مرضه (صلى الله عليه وآله) عدل عن ذلك، معوّلاً على ما أصَّله من استخلافه في الصّلاة. (ثم أخذ يشرح معنى هجر). قال: هجر: ظنّ ابن بطّال أنّها بمعنى اختلط، وابن التين أنها بمعنى هذى؛ وهذا غير لائق بقدره الرفيع، ويحتمل أن يكون المراد أنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) هجركم، من الهجر الذي هو ضد الوصل، لما قد ورد عليه من الواردات الإلهية، ولذا قال: في الرفيق الأعلى، وقال ابن الأثير إنّه على سبيل الاستفهام وحذفت الهمزة، أي هل تغيّر كلامه واختلط لأجل ما به من المرض، وهذا أحسن ما قال فيه، ولا يجعل إخباراً فيكون إمّا من الفحش أو الهذيان، والقائل كان عمر ولا يظنّ به ذلك» انتهى كلامه.
ونحن نردّ عليك يا سيادة العالم الجليل أن الظنّ لا يغني من الحق شيئاً ويكفينا اعترافك بأنّ قائل هذا الفحش هو عمر! ومن أنبأك بأنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) أراد أن يكتب خلافة أبي بكر؟ وهل كان عمر ليعترض على ذلك؟ وهو الذي شيّد أركان الخلافة لأبي بكر وحمل النّاس عليها غصباً وقهراً حتّى هدّد بحرق بيت الزّهراء وهل هناك من ادّعى هذا غيرك يا سيادة العالم الجليل؟
والمعروف عند العلماء قديماً وحديثاً بأنّ عليّاً بن أبي طالب هو المرشح للخلافة من قبل الرّسول (صلى الله عليه وآله) إن لم يعترفوا بالنّص عليه. ويكفيك ما أخرجه البخاري في صحيحه من كتاب الوصايا من جزئه الثالث صفحة 186، قال: ذكروا عند عائشة أنّ عليّاً رضي الله عنهما كان وصيّاً فقالت: متى أوصى إليه وقد كنت مسندته إلى صدري فدعا بالطسّت فلقد أنخنت في حجري فما شعرت أنّه قد مات فمتى أوصى إليه؟
والبخاري أخرج هذا الحديث لأنّ فيه إنكار الوصيّة من طرف عائشة وهذا ما يعجب البخاري، ولكن نحن نقول بأنّ الذين ذكروا عند عائشة أنّ رسول الله أوصى لعلي، صادقين لأنّ عائشة لم تكذّبهم ولم تنف هي نفسها الوصية ولكنها سألت كالمستنكرة متى أوصى إليه؟ ونجيبها بأنّه أوصى إليه بحضور أولئك الصحابة الكرام وفي غيابها هي، ولا شك بأنّ أولئك الصّحابة ذكروا لها متّى أوصى إليه ولكنّ الحكّام المتسلطين منعوا ذكر مثل هذه المحاججات كما منعوا ذكر الوصيّة الثالثة ونسوها، وقامت السياسة على طمس هذه الحقيقة على أنّ عمر نفسه صرّح بأنّه منع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من كتابة الكتاب لعلمه بأنه يختصّ بخلافة علي بن أبي طالب، وقد أخرج ابن أبي الحديد، الحوار الذي دار بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عبّاس، وفيه قال عمر وهو يسأل ابن عباس: هل بقي في نفس علي شيء من أمر الخلافة؟ فقال ابن عبّاس: نعم فقال عمر: ولقد أراد رسول الله في مرضه أن يصرّح باسمه فمنعته من ذلك إشفاقاً وحيطة على الإسلام (5).
فلماذا تتهرّب يا سيادة العالم من الواقع، وبدلاً من إظهار الحقّ، بعدما ولّى عصر الظلمات مع بني أميّة وبني العبّاس، ها أنتم تزيدون تلك الظلمات غشاوة وأستاراً فتحجبوا غيركم عن إدراك الحقيقة والوصول إليها، وإن كنت قلت الذي قلت عن حسن نيّةٍ فإني أسأل الله سبحانه أن يهديك ويفتح بصيرتك.